فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (5):

قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أخبر عن أفعالهم الظاهرة والباطنة أخبر بثمرتها فقال: {أولئك} أي الموصوفون بتلك الصفات الظاهرات، ولما تضمن ما مضى أن إيمانهم كان من أعظم استدلال فأثمر لهم التمسك بأوثق العرى من الأعمال استحقوا الوصف بالاستعلاء الذي معناه التمكن فقال: {على هدى} أي عظيم، وزاد في تعظيمه بقوله: {من ربهم} أي المحسن إليهم بتمكينهم منه ولزومهم له تمكين من علا على الشيء، ولما لم يلازم الهدى الفلاح عطف عليه قوله مشيرًا بالعاطف إلى مزيد تمكنهم في كل من الوصفين {وأولئك} أي العالو الرتبه {هم} أي خاصة {المفلحون} أي الكاملون في هذا الوصف الذين انفتحت لهم وجوه الظفر، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته من الفاء والعين نحو فلج بالجيم وفلق وفلذ وفلى.
قال الحرالي: وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب. انتهى.
وكونها للبعد إعلام بعلو مقامهم.
والفلاح الفوز والظفر بكل مراد ونوال البقاء الدائم في الخير. اهـ.

.قال الفخر:

في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه ثلاثة:
أحدها: أن ينوي الابتداء ب {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] وذلك لأنه لما قيل: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] فخص المتقين بأن الكتاب هدى لهم كان لسائل أن يسأل فيقول: ما السبب في اختصاص المتقين بذلك؟ فوقع قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} إلى قوله: {وأولئك هُمُ المفلحون} جوابًا عن هذا السؤال، كأنه قيل: الذي يكون مشتغلًا بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والفوز بالفلاح والنجاة لابد وأن يكون على هدى من ربه.
وثانيها: أن لا ينوي الابتداء به بل يجعله تابعًا {لّلْمُتَّقِينَ} ثم يقع الابتداء من قوله: {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ} كأنه قيل أي سبب في أن صار الموصوفون بهذه الصفات مختصين بالهدى؟ فأجيب بأن أولئك الموصفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلًا وبالفلاح آجلًا.
وثالثها: أن يجعل الموصول الأول صفة المتقين ويرفع الثاني على الابتداء و{أولئك} خبره ويكون المراد جعل اختصاصهم بالفلاح والهدى تعريضًا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله تعالى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

.معنى الاستعلاء في قوله تعالى: {على هُدًى}:

معنى الاستعلاء في قوله: {على هُدًى} بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونظيره فلان على الحق، أو على الباطل وقد صرحوا به في قولهم: جعل الغواية مركبًا، وامتطى الجهل.
وتحقيق القول في كونهم على الهدى تمسكهم بموجب الدليل، لأن الواجب على المتمسك بالدليل أن يدوم على ذلك ويحرسه عن المطاعن والشبه فكأنه تعالى مدحهم بالإيمان بما أنزل عليه أولًا، ومدحهم بالإقامة على ذلك والمواظبة على حراسته عن الشبه ثانيًا، وذلك واجب على المكلف، لأنه إذا كان متشددًا في الدين خائفًا وجلا فلابد من أن يحاسب نفسه في علمه وعمله، ويتأمل حاله فيهما فإذا حرس نفسه عن الإخلال كان ممدوحًا بأنه على هدى وبصيرة، وإنما نكر {هُدًى} ليفيد ضربًا مبهمًا لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره كما يقال لو أبصرت فلانًا لأبصرت رجلًا.
قال عون بن عبد الله: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا يسير.
ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدى بها إلا العلماء. اهـ.
قال الفخر:

.فائدة: في تكرار {أولئك}:

في تكرير {أولئك} تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضًا، فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين.
فإن قيل: فلم جاء مع العاطف وما الفرق بينه وبين قوله: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179] قلنا: قد اختلف الخبران هنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمت فإنهمامتفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، وكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل.
{هُمْ} فصل وله فائدتان:
إحداهما: الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة وثانيتهما: حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلت الإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان، أما لو قلت: الإنسان هو الضاحك فهذا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان.
معنى التعريف في {المفلحون} الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنسانًا قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أي هو الذي أخبرت بتوبته، أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحون فهم هم، كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيدًا هو هو. اهـ. بتصرف يسير.

.فصل: في معنى الفلاح:

قال الفخر:
المفلح الظافر بالمطلوب كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه، والمفلح بالجيم مثله، والتركيب دال على معنى الشق والفتح، ولهذا سمي الزراع فلاحًا، ومشقوق الشفة السفلى أفلح، وفي المثل الحديد بالحديد يفلح وتحقيقه أن الله تعالى لما وصفهم بالقيام بما يلزمهم علمًا وعملًا بين نتيجة ذلك وهو الظفر بالمطلوب الذي هو النعيم الدائم من غير شوب على وجه الإجلال والإعظام، لأن ذلك هو الثواب المطلوب للعبادات. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وأولئك هُمُ المفلحون} في الآخرة، أي الناجون.
يعني أن الله تعالى أكرمهم في الدنيا بالبيان، وفي الآخرة بالنجاة.
وقد قيل: الفلاح هو البقاء في النعمة.
وقد قيل: الفلاح إذا بلغ الإنسان نهاية ما يأمل.
ويقال: معناه قد وجدوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
وكل ما في القرآن المفلحون، فتفسيره هكذا. اهـ.

.قال الماوردي:

{وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنهم الفائزون السعداء، ومنه قول لبيد:
لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلاَحِ ** أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ

والثاني: المقطوع لهم بالخير، لأن الفلح في كلامهم القطع، وكذلك قيل للأكار فلاح، لأنه يشق الأرض، وقد قال الشاعر:
لَقَدْ عَلِمتَ يا ابنَ أُمِّ صحصحْ ** أن الحديدَ بالحديدِ يُفلحْ

واختلف فيمن أُرِيدَ بهم، على ثلاثة أوجه:
أحدها: المؤمنون بالغيب من العرب، والمؤمنون بما أنزل على محمد، وعلى من قبله من سائر الأنبياء من غير العرب.
والثاني: هم مؤمنو العرب وحدهم.
والثالث: جميع المؤمنين. اهـ.

.فصل في الرد على الوعيدية والمرجئة:

قال الفخر:
هذه الآيات يتمسك الوعيدية بها من وجه، والمرجئة من وجه آخر.
أما الوعيدية فمن وجهين:
الأول: أن قوله: {وأولئك هُمُ المفلحون} يقتضي الحصر، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحًا، وذلك يوجب القطع على وعيد تارك الصلاة والزكاة.
الثاني: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فيلزم أن تكون علة الفلاح هي فعل الإيمان والصلاة والزكاة، فمن أخل بهذه الأشياء لم يحصل له علة الفلاح، فوجب أن لا يحصل الفلاح.
أما المرجئة فقد احتجوا بأن الله حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكروة في هذه الآية فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحًا وإن زنى وسرق وشرب الخمر، وإذا ثبت في هذه الطائفة تحقق العفو ثبت في غيرهم ضرورة، إذ لا قائل بالفرق.
والجواب: أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر فيتساقطان، ثم الجواب عن قول الوعيدية: أن قوله: {وأولئك هُمُ المفلحون} يدل على أنهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل في الفلاح، ونحن نقول بموجبه، فإنه كيف يكون كاملًا في الفلاح وهو غير جازم بالخلاص من العذاب، بل يجوز له أن يكون خائفًا منه، وعن الثاني: أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تعالى.
والجواب عن قول المرجئة: أن وصفهم بالتقوى يكفي في نيل الثواب لأنه يتضمن إتقاء المعاصي، وإتقاء ترك الواجبات والله أعلم. اهـ.

.قال ابن كثير:

{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
يقول الله تعالى: {أُولَئِكَ} أي: المتصفون بما تقدم: من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات.
{عَلَى هُدًى} أي: نور وبيان وبصيرة من الله تعالى.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: في الدنيا والآخرة.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي: على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
وقال ابن جرير: وأما معنى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم، وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم وتأويل قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي المُنْجِحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب.
وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ} الآية، على ما تقدم من الخلاف. قال وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ} منقطعا مما قبله، وأن يكون مرفوعًا على الابتداء وخبره {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب، لما رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم. وقد نقل هذا عن مجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، رحمهم الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: يا رسول الله، إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس، أو كما قال. قال: فقال: «أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} إلى قوله تعالى: {الْمُفْلِحُونَ} هؤلاء أهل الجنة. قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} هؤلاء أهل النار. قالوا: لسنا هم يا رسول الله. قال: أجل. اهـ.

.قال السعدي:

وأتى بعلى في هذا الموضع، الدالة على الاستعلاء، وفي الضلالة يأتي بفي كما في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى، مرتفع به، وصاحب الضلال منغمس فيه محتَقر.
ثم قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم، وما عدا تلك السبيل، فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك. اهـ.